ما زال الإتصال مع أرواح الموتى يعتبر من الأمور الغامضة والمثيرة للجدل دينياً وثقافياً سواء في إمكانية تحقيق هذا الإتصال أو في كيفية القيام به من خلال إقامة جلسات إستحضار الأرواح أو في التأكد من طبيعة الكيان الروحي المزعوم ( جن ، شيطان ، روح موتى ) ومن هويته الفعلية أو حتى من عالمه الذي يسكنه (عالم أثيري ، بعد آخر ، ...الخ )
ومع ذلك يرى الطب النفسي أن هذا الإتصال من صنع وإيحاء العقل وحده بينما يرى علماء آخرون أنه إتصال يستند إلى تكهنات يصعب إخضاعها لشروط التجربة المخبرية خاصة أنه غير محسوس .
في هذه السلسلة سنتطرق إلى إتصال من النوع المذكور كان قد ذكره أحد الكتب السماوية وهو إتصال مع روح صموئيل وهو أحد أنبياء بني إسرائيل حيث يعد برهاناً لدى الكثير من الناس حول إمكانية الإتصال مع الارواح .
القصة
ذكر الكتاب المقدس (العهد القديم) في كتاب صموئيل الأول الإصحاح 28 (3- 25) أن أمراة فلسطينية تلقب بـ " ساحرة إندور" ( إندور : مدينة كنعانية وتوابعها لم تنجح محاولات الإسرائيليين آنذاك في الإستيلاء عليها ) كما تلقب أيضاً بـ "وسيطة إندور " تمكنت من استدعاء شبح النبي صموئيل الذي وافته المنية قبلها بفترة قصيرة وذلك بناء على طلب من الملك شاؤول .
بعد وفاة صموئيل ودفنه صباحاً خلال مراسم أقيمت في مدينة (راماه) قام الملك شاؤول باستدعاء جميع السحرة ومستحضري الأرواح في البلاد، وفي محاولة يائسة سعى خلف ساحرة متخفياً عن الأنظار في مدينة إندور بعدما لم يتلق أية إجابات في أحلامه من الرب والأنبياء وكذلك من يوريم وثوميم ( ثقافة وديانة يهودية قديمة تعني التنوير والكمال) ، كان شاؤول يهدف من خلال هذا الإتصال الحصول على مشورة تتعلق بمجابهته لقوات الفلسطينيين التي تجمعت من كل حدب وصوب لمحاربته ، وبناء على أوامر منه قامت امرأة باستدعاء شبح صموئيل من دار البرزخ أو الموتى لكنه لم يحظ بالمشورة بل اشتكت روح النبي صموئيل من إيقاظها من نومها الطويل وصرخت في وجه شاؤول بسبب عصيانه لله وتنبأت بسقوط شاؤول مع كامل جيشه في معركة اليوم التالي وبأن ابن شاؤول سينضم إليه في دار الموتى ، شعر شاؤول بالصدمة والخوف ، وفي اليوم التالي هُزم الجيش فعلاً وانتحر شاؤول بعد اصابته بجروح.
وصفت تلك المرأة بأنها " امرأة أوب " أو المرأة التي تحمل جعبة جلدية مملوءة بالنبيذ في اللغة العبرية وربما يكون هذا إشارة إلى قدرة الكلام من البطن ، وادعت المرأة أنها رأت الآلهة (إلوهيم) بزرت من الأرض .
كانت نبوءة شبح صموئيل إلى حد كبير تكرار حرفي لما قاله النبي صموئيل مع الناس حينما كان على قيد الحياة باستثناء التنبؤ بموت شاؤول في " اليوم التالي". ومع ذلك يكشف التتبع الزمني للإصحاحات في كتاب صموئيل والممتدة من 28 إلى 31 ومن ثم كذلك السماح لوقت كاف لتحركات قوات داوود من يزرعيل إلى زيكلاغ أن شاؤول لم يمت إلا بعد إنقضاء 3 أو 4 أيام على جلسة إستحضار الأرواح في (إندور) ، مما يعني أن المعلومة الإضافية الوحيدة في جلسة إستحضار الأرواح غير صحيحة بالمعنى الحرفي.
العمل الفني
تبين الصورة عملاً فنياً بعنوان " ساحرة إندور" : Witch of Endor وهي لوحة زيتية من عمل (هنري إدوارد كوربولد) (1814- 1904) وهي تصور ما ذكره في القصة.
في اليهودية
وصفت إحدى الترجمات الإغريقية القديمة للكتاب المقدس (حوالي 2 ما قبل الميلاد ) أن المرأة كانت تقوم بالتكلم من البطن مما يعكس رأياً ثابتاً لدى المترجمين الإسكندريين يتعلق بـ " شياطين يتوهم وجودها " فيما رأى جوزيفوس في العام الأول الميلادي أن القصة تملك مصداقية.
- وفي العام 11 للميلاد حدد (يالكوت شيموني) هوية الساحرة المجهولة على أنها أم ( أبنر) وبناء على إدعاءات الساحرة فإنها رأت شيئاً ما فيما سمع شاؤول صوتاً بدون جسد ظاهر ويستنتج أيضا أن مستحضرة الأرواح قادرة على رؤية أرواح الموتى من دون أن تكون قادرة على سماع كلامهم ، على نقيض الشخص الذي طلب استحضار الروح الذي يسمع صوتها من دون أن يراها.
في المسيحية
لقد ناقش آباء الكنيسة وبعض الكتاب المحدثين في المسائل اللاهوتية مسألة الإتصال مع الموتى التي أتى أثارها النص الديني الذي بدا أنه خرج عن السياق ، فكانت قصة الملك شاؤول وساحرة إندور تقول أنه من الممكن للبشر إستدعاء أرواح الموتى بواسطة السحر.
ويقول الكاتب المسيحي المعاصر (هانك هانيغراف) أنه على الرغم من إستحالة استدعاء الموتى من قبل البشر ، فإن صموئيل ظهر أمام شاؤول بـ "قدرة من الله " مما أدى إلى دهشة الساحرة بتلك الأحداث بحسب زعمه.
- تقول مفاهيم العصور الوسطى للكتاب المقدس أن الساحرة لم تستدعي شبح صموئيل بل شيطان تجسد بهيئته ، ويؤيد هذا الرأي مارتن لوثر وهو مؤسس طائفة البروتستانت (الروافض) ) حيث يؤمن بأن الموتى غير واعية وما تجسد هو "شبح الشيطان" في حين يؤمن ( جان كالفن) وهو مصلح ولاهوتي ديني فرنسي ومؤسس مذهب لكالفانية بأن النفس خالدة وما تجسد ليس صموئيل الحقيقي وإنما شبحه.
- الواعظون من أتباع السبتيين يعلمون تلك القصة للناس على أنها نموذج من ممارسات الشعوذة و السحر القديم في الكتاب المقدس والذي تأسس على اعتقاد غير ديني يقول بإمكانية اتصال البشر مع الموتى. حيث يعتبرون أن الإتصال مع الموتى شكل من السحر والشعوذة والروحانية التي أدينت ممارستها في النص الديني ، ويجزمون بأن الموتى لا تعلم أي شيء لذلك فأنهم يرون أن شاؤول لم يكن يتصل مع النبي صموئيل بل مع الشيطان.
- ومن ناحية أخرى يمكن النظر إلى القصة باعتبارها بلاء على شاؤول الذي كان ملكاً صالحاً ومدافعاً عن شريعة الرب بسيفه لكنه ما لبث أن فقد بركته لما اقترفه من معاصي ولأنه اختار أن يشارك في طقوس محرمة ، ولم تعط الروح لـ شاؤول والتي تجسدت بشكل صموئيل أي دعم له وبدلاً من ذلك زادت من مخاوفه وتوقعت حتفه.
شاهد الفيديو
في هذا المقطع نسمع أغنية بعنوان "في ليلةالمذنب" In guilty night من وحي قصة شاؤول وساحرة إندور وهي من أعمال هنري برسل (1659-1695 ) وهو مؤلف موسيقي إنجليزي । وله العديد من الأناشيد الدينية والشعبية، وكانت أعماله في أغلبها ذات طبيعة غنائية شعرية وتميزت بحساسية كبيرة
0 التعليقات:
إرسال تعليق
رد بسيط منك يسعدنا